صدرت حديثاً عن دار التَّكوين في دمشق، وبترجمة وتقديم الشَّاعر السُّوري أمارجي، الآثار الشِّعريَّة الكاملة للشَّاعر الإيطالي دينو كامبانا الذي ينتمي إلى الجيل الحداثي الأوَّل في إيطاليا، وذلك في كتابٍ واحدٍ من القطع المتوسِّط، جاء في 295 صفحة، وتضمَّن مجموعتين: "أناشيد أورفيَّة"، وهي الدِّيوان اليتيم الذي أعِدَّ للنَّشر من قِبل كامبانا نفسه؛ و"قصائد غير منشورة"، وتضمُّ القصائد التي عُثر عليها بعد موت الشَّاعر ولم تُنشر إبَّان حياته.
وُلِدَ دينو كامبانا في مارَّادي، في العشرين من آب/ أغسطس عام 1885م. كان مصاباً بنوعٍ من العنف الاعتلاليِّ الذي قادَه إلى مصافِّ المرضى العقليين، وقد ولَّدَ في محيطه ثورةً ضدَّه، ضدَّ جنونه وخروجه عن الاعتياديِّ والمألوف. تقولُ النَّاقدة أوليڤيا تريوسكي في ذلك: "كانَ كامبانا ويبقى منفيَّاً، منبوذاً، حضوراً غير مُريح وصعب التَّصنيف في الأدراج المسبقَةِ التَّبويب لتاريخنا الأدبيِّ. لماذا؟ لأنَّ كامبانا شاعرٌ غايةٌ في التَّكثيف، ضُربَ من حولِهِ طوقٌ من الاحتراز والتَّحفُّظ؛ كان كامبانا رجلاً بالغَ التَّعقيد، لا يمكن مقاربته بسهولة؛ والأهمُّ من هذا وذاك هيَ أسطورةُ الشَّاعر المجنون". لقد كانت القصيدة بالنِّسبة إلى كامبانا، على حدِّ قول تريوسكي، دِيناً؛ بل أكثر من ذلك، كانت هي الدِّين بامتياز؛ وكان كامبانا يشعرُ بأنَّه هو أيضاً الرَّسول والكاهن وسارقُ النَّار الذي يضيءُ الجوهرَ الباطنيَّ الخفيَّ والحميميَّ للإنسان.
لعلَّ الموضوع الرئيسي لرائعة كامبانا "أناشيد أورفيَّة" هو التَّرحُّل، المتخيَّل أو الحقيقي، النَّائي (كما في قصيدة بامباس) أو الدَّاني (كما في قصائد العبور إلى فايينتزا، فيرِنتسِه، جِنوى، وبولونيا)؛ حيث كانت لديه رغبةٌ نوستالجيَّة عارمة بالرَّحيل، وحنينٌ مُبهَمٌ إلى المابَعد، المافَوق، والماوراء. وتعودُ بدايات ميوله التَّشرُّديَّة إلى السنة الأخيرة من دراسته الثَّانويَّة حيث مضى مسافراً على قدميه لا يدري إلى أين، إلى أن قُبضَ عليه وسُجنَ في بارما بعد تورُّطه في عدَّة حوادث ومُشاجَرات.
يضعُ الشَّاعر جوزبِّه أونغارِتِّي أسفارَ كامبانا موضعَ الجدال والتَّشكيك، لكنَّه مخطئٌ في ذلك، فثمَّة أدلَّةٌ دامغة على رحلته إلى فرنسا، وإلى أمريكا الجنوبيَّة، وعلى إقامته في الأرجنتين وأمريكا اللاتينية، في ربيع- صيف عام 1908م، وعلى دخوله السِّجن لثلاثة أشهر في بروكسل، وعلى نفيِه إلى تورناي بسبب غرابة أطواره. من كلِّ هذا الاغتراب، بقيت لنا قطراتٌ رائعة التناغم في "أناشيد أورفيَّة". أمَّا أعماله الأولى التي تعود إلى عام 1907م وجميع شذراته الشِّعريَّة فهي مودعةٌ في دفترِه وقد أقصيت جانباً في عام 1912م على ما يمكن التَّصوُّر، عندما بدأ كامبانا بكتابة أناشيده الأورفيَّة والتي عمد بعد صدورها إلى بيع الكتابِ بنفسِه متجوِّلاً بين المدنِ والحانات، وعندما كان يطلب شخصٌ ما شراء نسخة كان كامبانا يتملاه جيداً قبل أن يبيعه إيَّاها، وأحياناً كان يمزِّق بضع صفحاتٍ لاعتقادِه أنَّ هذا الزبون لن يفهمها.
يتحدَّث أمارجي عن هذه "الإبهاميَّة" في شعر كامبانا، والتي تتجسَّد في ذلك "التَّمزُّق اللغويِّ" وفي تلك "الهلاسات الرؤيويَّة"، التي يشعر القارئ إزاءَها أنَّه يسقط في "مهبِّ دُوارٍ لانهائيٍّ من الشَّطط الإيقاعيِّ والخواء اللحنيِّ"... ويقول أمارجي: "إنَّ كامبانا هو مثل رامبو وهولدرلين من طائفة الشُّعراء الملعونين الذين تصعب قراءتهم لأنَّهم يخاطبوننا من داخل ليل الجنون، بلغةٍ تعجُّ في الوقت نفسِه بالإشراقات؛ لكنَّ هذه الصُّعوبة هي ما يجعل من ذلك الشِّعر فريداً، ومتعة قراءته تكون بالارتماء في ذلك الاستغلاق الليليِّ المتمادي".
يُلتقَطُ منَ الوصف المشهديِّ في شِعر كامبانا، والذي يُحاذي السِّحر، تأثُّرٌ كبيرٌ بالشَّاعر غابرييل دانُّونتسو، إذْ يستقي كامبانا منه مهابةَ الأسلوب وفخامته لائذاً بالإيحاءات والتهاويم المنمَّقة، ومحوِّلاً عناصرَ سيرته الذاتية إلى إلماعاتٍ مفعمةٍ بالشِّعريَّة ومُرصَّعةٍ بالأخيولات الملحَّة حيث يحتلُّ الأنا محورَ المشهد: "في الليلِ الموشَّحِ باللون القرمزيِّ، أصغي إلى أغنياتٍ برونزيَّة. الزنزانة بيضاء، المهادُ أبيض. الزنزانة بيضاء، مشغولةٌ بمسيلٍ من الأصوات التي تُحتضَر في المُهُد الملائكيَّة، بالأصواتِ الملائكيَّة البرونزيَّة مشغولةٌ الزنزانةُ البيضاء" [رؤيا المغلَق]. أمَّا في اللحظات التي ينجح فيها كامبانا بالكتابة بتجريدٍ كبيرٍ وحرفيَّةٍ عالية فإنَّ مقدرةً عظيمةً تتولَّدُ حيالَ إضفاءِ الطَّابع التَّعبيري على الرؤى والذِّكريات.
في الثالثة والثلاثين من عمره، وُضعَ الشَّاعر المجنون بشكلٍ نهائيٍّ ورسميٍّ بين أشباهه في مُستشفى كاستِل بولتشي للمجانين، حيثُ توقَّف عن الكتابة نهائيَّاً وأمضى الأربع عشرة سنةً الأخيرة من حياته بين الأطباء النَّفسيِّين. في آذار من عام 1932م توفي كامبانا وهو في السَّابعة والأربعين بإثر مرضٍ غامضٍ ومفاجئ؛ وكان موته أشبه بالاختيار الشخصي إذ رفض أن يعالَج وهو في الرمق الأخير. بهذا المشهد، خُتمتْ مأساةُ من يعتبره الكثيرون رامبو إيطاليا وآخِرَ شعرائها الكِبار.
إعداد: تدوين.